نبيه البرجي
ذاك المثقف السوري، المتدفق كما بردى أيام زمان، استوقفني ذات يوم في أحد أحياء دمشق، حيث اعتدت أن أتجول كالسكارى. قال لي “هؤلاء الذين لم يروا في لبنان سوى مغارة علي بابا وسوى ألف ليلة وليلة، لا يعنيهم صوت فيروز، ولا هياكل جوبيتير، ولا ما كتبته حول وصف لامارتين له بـأريكة القمر أو بأريكة الله”.
بمرارة أضاف “لم يتأثروا بزهد ودماثة حافظ الأسد. وهذا ما قد يكون وراء خروجنا مرغمين من لبنان، تماماً مثلما خرج العثمانيون. أرجوكم ألاّ تلاحقوا جنودنا بالحجارة لأنهم ضحايا ذلك الطراز من الديناصورات، الذين لا علاقة لهم لا بالثقافة السورية ولا بالروح السورية”.
صديقنا المثقف هاجر الى السويد. “كما لو أنك تضع اللقلاق في حجرة فارغة. لا غيمة يتكئ اليها، ولا هواء يشبه هواء سوق الهال، أو باب ساروجة. ما من أحد يكترث لأحد، حتى لتظن أن الثلوج الآتية من القطب المتجمد هي التي تصنع وجوه الناس هنا”…
شاركني وصفي لـلعالم العربي بالعالم الافتراضي. لهذا استعار ريشة سلفادور دالي ليكتب مقالة لاحدى الصحف عن المنطقة، من الخليج الى المحيط، والتي “يبدو لي أنها تدار فعلاً بأصابع غرائبية، والا لما بقيت عالقة هكذا بين تكشيرة الحجاج بن يوسف وقول محمد الماغوط، اننا ندخل الى القرن مثلما تدخل الذبابة الى قصر الملك”.
اختار الفنان السريالي الشهير لأن أصابعه أكثر رهافة وأكثر واقعية من أي اصابع أخرى. “نستغرب كيف أننا في المشرق لا نزال نستعيد رومانسياً تغريبة بني هلال، وكيف أنهم في المغرب يتلقفون قصائد نزار قباني ومحمود درويش وجوزف حرب، كما يسهرون على أنغام مارسيل خليفة، أو على بدائع زياد الرحباني، ومع ذلك تبحث عبثاً عن العرب في العالم العربي”.
ماذا عن يوميات السويد؟ “لا شيء سوى الملل، وسوى انتظار غودو (مسرحية صمويل بيكيت) يدق الباب. هذا ما أتاح لي الوقت للتأمل في أحوالنا، وحيث تستشري ثقافة اللامعنى. لم نعد تلامذة الخوارزمي ولا ابن رشد ولا أبي حيان التوحيدي. حالات مبعثرة بين بكاء أمرئ القيس على الاطلال وقهقهات الحاخامات في عقر دارنا!! “
في نظره، لا أحد مثل سلفادور دالي يضيء المشهد. “عرب في الطبقة العليا من الجنة، وعرب في الطبقة الدنيا من جهنم. عرب تمنع عنهم أميركا القمح والمازوت ولقاحات الكوليرا، وعرب يعتبرون أن وجودهم، وليس بقاؤهم فقط، رهن بالمشيئة الأميركية. عرب يُقتلون بالرصاص “الاسرائيلي”، وعرب على خطى دونالد ترامب في كون “اسرائيل” “ضرورة الهية” أو “وديعة الهية”. قريباً التطواف حول الهيكل لا حول الكعبة”.
لاحظ أنه، بالرغم من ذلك العدد الهائل من رجال الدين، ومن آلاف المساجد التي تغص بالمصلين، “لا يزال الشيطان يتجول، ربما بقبقابه الخشبي، في رؤوسنا. أزماتنا مشرعة بانتظار الحل من زبانية القرن”.
من السويد حنين الى قيس وليلى. لا سبيل أمام طائر اللقلاق الا أن يسقط فارغاً في الحجرة الفارغة. أحياء دمشق تغيرت كثيراً. ضفاف بردى متعبة، تحثك على الرحيل الى ضفاف أخرى.
يختم “هنا، يا صاحبي الضفاف الأخرى. تتمنى أن تموت على قدمي محيي الدين بن عربي لا أمام صورة انيتا اكبرغ التي علقتها على الحائط لأنسى أنني في دمشق، وقعت في غرام امرأة ظننت أن الله صنعها من أجلي فقط، قبل أن تجد فيّ المثقف الذي يصرخ في صحراء”. قالت لي “يا لبشاعتك”!. رحلت و… رحلت”.
لصديقي في السويد، وقد التقينا وافترقنا على ثقافة اليأس، ربما نستيقظ ذات يوم على عصا قس بن ساعدة، وهي تنهال على ظهورنا. الوعي بحالنا وبأحوالنا. اننا نقترب…
اذا سألني “متى”؟ أدونيس يعتقد أننا قد نحتاج الى مائة عام من الاغتسال بالحياة كي نغادر شقوق التاريخ، وشقوق الايديولوجيا، وحيث لا مكان سوى للعناكب…
حتماً، لن نبقى العناكب البشرية.
Discussion about this post