نبيه البرجي
غريب أن كارل ماركس بالدماغ الفذ، اكتفى بالقول “الدين أفيون الشعوب”. كان الأحرى أن يقول “التاريخ أفيون الشعوب”. في منطقتنا… التاريخ مقبرة الشعوب!
قبل أن نكون طوائف، ونختلف لمن تكون السماء (وهي ليست لنا)، ولمن تكون الأرض (وهي ليست لنا)، كنا ولا نزال القبائل، ولكن بثقافة الرعاة الذين يشتبكون بالعصي وبالحجارة في بحثهم عن الكلأ…
هكذا يفترض أن يكون ابن رئيس الجمهورية رئيساً للجمهورية، وابن الوزير وزيراً، وابن النائب نائباً، وابن الدركي دركياً، حتى أن رئاسة الأحزاب حكر على الورثة بالصكوك العقارية. ولأن ميشال عون لم يرزق بولد ذكر اختار صهره لوراثته. يا صاحب الفخامة أي تركة رائعة لتنتقل الى جبران باسيل ؟ قطعة من جهنم؟
لا تسألوا من هو ابن فرنكلين روزفلت، ولا ابن شارل ديغول، ولا ابن ونستون تشرشل، ولا ابن كونراد اديناور وصولاً الى ابن أدولف هتلر. هؤلاء لا يتقاتلون من أجل الكلأ. صراعهم حول من يلقي القبض على المستقبل لا حول من يبقى في قبضة الماضي.
في حال سعد الحريري. اللحظة الاغريقية حملته الى السياسة بكل ويلاتها وبكل أهوالها. الملك عبدالله بن عبد العزيز أشار باصبعه “فليكن هذا”… فكان هذا. لا تتصوروا أن رئيس الجمهورية في بلادنا، أو أن رئيس الحكومة، يأتي من دون اصبع خارجية ومن دون… “فليكن هذا” !
مرات ومرات، جلسنا مع رفيق الحريري. استنتجنا، ونجزم بأن الاستنتاج صحيح. الرجل أتى في وقت كانت المنطقة تتجه نحو “السلام الكبير”. المفاوضات بين دمشق و”تل أبيب” تمحورت حول بضعة أمتار من ضفاف طبريا. حافظ الأسد الذي لا يتكرر قال: “هنا كنت أسبح عندما كنت فتى” .
في لحظة توراتية (وما أدراكم كيف تتقيأ التوراة الدم)، أطلق ييغال عمير النار على اسحق رابين، لكأنه أطلق النار على رفيق الحريري. في نظر عالم السياسة الانكليزي هارولد لاسكي “حين يسقط المشروع يسقط الرجل”.
يقول لنا رفيق قديم لرفيق الحريري أن الرجل كان يحلم، اذا قام السلام بلبنان ، الذي ينافس “اسرائيل” في استقطاب الاستثمارات الخليجية والسياح العرب. هنا الدم عربي (ليس عبرياً )، وهنا اللغة عربية وليست عبرية.
منطقياً، لا أحد يمكنه أن يكون نسخة عن رفيق الحريري (الا عبر تقنية الاستنساخ). سعد كان الضحية. الاصبع اياها أشارت اليه بان يذهب الى دمشق. ذهب، وكانت أيام ذهبية في العلاقات اللبنانية ـ السورية. ولكن حسبما قال لنا وزير بيروتي سابق، ثمة مستشار رئاسي سابق في قصر الشعب، جرّ الكثير من الويلات على النظام، هو من نصح باقالة سعد الحريري، حين كان الرجل يلتقي بباراك أوباما في المكتب البيضاوي.
قد يحق للبعض التوجس من حجم رفيق الحريري، بالهالة الاقليمية والدولية، ولكن كيف يمكن التوجس من حجم سعد الحريري، وان كان نوع معيّن من المستشارين، بمناقير الغربان، ينام نحت سريره.
هذا رجل دمث، ولا طائفي، وصاحب قلب نظيف. لهذا انقضّ عليه الاقربون والمرتزقة، حتى اذا ذهبت الثروة أدراج الرياح لم يجد الى جانبه، حتى من أقرب المقربين، من يقول له “هذا قميصي أبيعه من أجلك”!…
لو كان سعد الحريري مكيافيلياً لما أبعد عن السراي، وحتى عن لبنان، بتلك الطريقة المهينة (حياة حافلة بالصدمات). هل الحرب في اليمن، بما تردد حول بعدها اللبناني، هي التي حملته الى المنفى، وقد رفض السيناريو الذي يفضي حتماً، الى حرب أهلية لا تبقي ولا تذر…؟
في الذكرى الثامنة عشر لرحيل الأب، عاد سعد الحريري الى بيروت لأيام. لم يتكلم في السياسة. لو تكلم ماذا يقول وسط هذه الحرائق؟ كل الآخرين ماذا يقولون، وماذا يفعلون، سوى أنهم ينتظرون ما (ومن) تشير اليه الأصابع الخارجية، وقد تعددت وتعقدت.
في صدره كلام. في صدره جمر أيضاً. يعلم أن ثمة من أمر باقفال البيت السياسي لآل الحريري. قد يكون هناك من يشير عليه بأن ينتظر تحولاً في الحال. هذه مسألة تتعلق بالقضاء والقدر…
عش حياتكَ ياشيخ سعد. لبنان في الموت السريري. لم تعد على أجندة من اختار لكَ المنفى..
Discussion about this post