جاء فوز لويس لولا داسلفا الزعيم اليساري التاريخي المخضرم في الانتخابات الرئاسية الأخيرة على خصمه اليميني المتشدد بولسنارو صدمة غير سارة للولايات المتحدة الامريكية وحلفائها في أوروبا، لأنه أي الرئيس البرازيلي يميل الى روسيا والصين، ويعتبر من مؤسسي منظومة “بريكس” الموازية لمجموعة الدول السبع وحلف الناتو، ويضم علاوة على القوتين العظميين (روسيا والصين) كل من الهند وافريقيا الجنوبية، الى جانب البرازيل، ومن المتوقع ان تنضم اليهم ايران السعودية ومصر التي تقدمت بطلب العضوية.
لولا دا سلفا يعود الى السلطة ليس لأنه ينتمي الى الطبقة العمالية الفقيرة المسحوقة، وكان يفتخر بأنه عاش طفولته وشبابه في منزل لا يوجد فيه ثلاجة ولا تلفزيون، وانما أيضا لأن فترة حكمه للبرازيل شهدت إصلاحات اقتصادية شاملة، وانخفاض معدلات الفقر، والحد من التفاوت الطبقي، وحماية البيئة وخاصة غابات الامازون.
من حق أمريكا ان تقلق من عودة اليسار الى حديقتها الخلفية، في وقت تخوض حربا عالمية ضد روسيا وبدرجة أقل الصين في أوكرانيا، وتعاني من أزمات اقتصادية طاحنة، وتوشك ان تخسر زعامتها للعالم، وربما في تايوان، فالرئيس الجديد دا سلفا يعارض هذه الحرب، ويميل أكثر الى الجانب الروسي فيها.
سبع دول أمريكية جنوبية باتت تُحكم الآن بزعامة يسارية بعد فوزها في إنتخابات ديمقراطية نزيهة جرت في السنوات الخمس الأخيرة مثل الارجنتين، والمكسيك وبوليفيا، وتشيلي وبيرو وأخيرا كولومبيا التي باتت لأول مرة في تاريخها يتزعمها رئيس يساري، ولا ننسى الدول اليسارية القديمة مثل فنزويلا وكوبا، ونيكاراغوا.
أنظمة الحكم اليمينية المحافظة الحاكمة فشلت فشلا ذريعا في إدارة شؤون البلاد، وكان العامل المشترك فيها جميعا هو التأزم الاقتصادي، وتفشي الفساد، واتساع الهوة بين الفقراء والأغنياء، والعجز في مواجهة وباء كورونا الذي أدى الى وفاة 500 ألف شخص في البرازيل وحدها.
احببنا لولا دا سلفا، وتلميذته النجيبة وخليفته ديلما روسيف لانهما كانا حليفين قويين للعرب والمسلمين وقضاياهم العادلة، وخاصة القضية الفلسطينية، وكانت مواقفهما في دعم هذه القضية وفضح المجازر والجرائم الإسرائيلية أكثر صلابة من مواقف العديد من الحكومات العربية.
تعرض الرئيس البرازيلي الجديد المنتخب لكل أنواع المؤامرات للإطاحة به واغتيال شخصيته من قبل الولايات المتحدة ودولة الاحتلال، بما في ذلك تلفيق قضايا له أدت الى اعتقاله وسجنه، ولكنه لم يرضخ ولم يستسلم مطلقا، وها هو يعود منتصرا الى سدة الحكم ومتحديا لهذه القوى الاستعمارية.
هناك نظرية يجري ترديدها من قبل بعض المحللين الغربيين المأزومين من هزيمة اليمين وعودة اليسار تقول “الناخبون في البرازيل وباقي دول أمريكا الجنوبية صوتوا ضد من يكرهونه او يرفضونه أكثر مما صوتوا لصالح من يحبونه او يؤيدونه” وهذه النظرية العدف منها الإساءة الى اليسار وإهانة الجماهير التي إنحازت له بسبب برامجه السياسية والاقتصادية العادلة والمجربة، والتي تضع مصالح المواطن، وليس أمريكا، فوق كل الاعتبارات الأخرى.
ندرك جيدا ان هناك “مطبات” عديدة في طريق عودة دا سلفا الى القصر الرئاسي في ظل صمت خصمه المهزوم بولسنارو الذي كانت زوجته تتباهى بارتداء قميصا يتربع على صدره علم دولة الاحتلال، فحتى هذه اللحظة لم يعترف بنتائج الانتخابات، ولعل هذا الصمت دليل على محاولته الانقلاب عليها والاستعانة ببعض الضباط الفاسدين في الجيش، علاوة على وكالة المخابرات المركزية الامريكية لتي تملك خبرة “عريقة” في هذ المضمار.
دا سلفا فاز في انتخابات نزيهة شفافة، وامريكا لا تستطيع ان تغير هذه الحقيقة، وتجربتها في تغيير النظام في فنزويلا منيت بالفشل المهين، وها هي تتودد حاليا لنيكولاس مادورو رئيسها سعيا لثروات بلاده الغازية والنفطية.
زمن الانقلابات وتغيير الأنظمة والأمريكي خاصة في أمريكا الجنوبية انتهى، ولفظ أنفاسه الأخيرة في البرازيل، وبدأ زمن جديد قد نرى فيه العكس، أي قيام دول وشعوب أمريكا الجنوبية في تغيير النظام الأمريكي ولا شيء مستبعد هذه الأيام في ظل تراجع القيادة الامريكية للعالم، فمن كان يتصور في أي يوم من الأيام ان تتمرد دول الخليج بزعامة السعودية والامارات على “الحماية” الامريكية وتنحاز لروسيا والصين وتتمسك بإتفاق “أوبك بلس”، وترفض الاستجداءات الامريكية بزيادة الإنتاج لا تخفيضه؟
“راي اليوم”
Discussion about this post