زياد غصن
من أهداف الألفية الثالثة إلى التنمية المستدامة، وما قبلهما من مشروعات وبرامج أممية كثيرة، تبنت نظرياً أهدافاً تنموية سامية ومشروعة، إلا أن جميعها فشلت في الوصول إلى مرادها المتمثل في تحقيق رفاه شعوب الأرض، وإن كان هناك ظاهرياً تقدم ما على مستوى بعض المؤشرات الوطنية، فالأوبئة لا تزال تهدد حياة ملايين الأشخاص حول العالم، ولعل انتشار فيروس كوفيد 19 وما حصده من أرواح ملايين البشر مثّل دليلاً على “كذب” المؤشرات الصحية المعلنة، وأظهر حجم الضعف الذي تعانيه الأنظمة الصحية العالمية. كذلك الحال بالنسبة إلى الجوع والفقر، والحصول على الخدمات الأساسية، وضمان التعليم، وغير ذلك.
في الحديث عن أسباب فشل هذه المبادرات الأممية في إطارها العام تتبدى حقيقة التناقض الحاصل في بيئة العمل، ففي الوقت الذي ترفع هذه المبادرات شعارات هامة من قبيل القضاء على الجوع، وتعزيز النمو الاقتصادي، والتصدي لتغيرات المناخ، وغيرها، تشن الدول المتقدمة الكبرى حروباً عسكرية واقتصادية وثقافية ضد دول أخرى نامية، تستمر في نهب ثروات دول ثانية ومواردها، وتزيد من أنشطتها المخالفة للاتفاقيات الدولية المتعلقة بالبيئة. وبناء على ذلك، فإن كل تلك الشعارات والمبادرات والمشروعات تبقى رهينة لسياسات الدول الكبرى ومصالحها.
وسوريا هي واحدة من الدول التي تصلح لأن تكون نموذجاً مثالياً للدراسة في هذا الشأن. فما حققته هذه الدولة على صعيد أهداف الألفية الثالثة قبل العام 2011، كان باعتراف المنظمات الأممية نفسها يبدو جيداً ومثيراً للإعجاب، فعلى الأقل، كانت هناك جهود حكومية واضحة لتحسين وضع المؤشرات المتعلقة بالجوانب التنموية. لكن، كل هذه الجهود تبخرت مع دخول البلاد في أتون حرب مدمرة بدءاً من العام 2012. حرب شهدت تورطاً إقليمياً ودولياً مباشراً في مجرياتها، وأتت على أربعة عقود من المؤشرات التنموية.
ومع ذلك، سنعدّ ذلك، تجاوزاً، نتيجة طبيعية للحروب، إنما ما تفرضه الدول الغربية من إجراءات، وما تقوم به على الأرض السورية من ممارسات، لا يعرقل فقط، بل يحول دون قيام الحكومة السورية بترميم ما فقدته مؤشراتها التنموية المنبثقة من أهداف المبادرات الأممية، فهذا هو التهديد الحقيقي الذي يواجه مثل تلك المبادرات. إذ لا يمكن الحديث عن القضاء على الجوع وضمان حصول الجميع على الطاقة الحديثة بتكلفة ميسورة، والولايات المتحدة الأميركية لا تزال تحتل حقول القمح والنفط في الجزيرة السورية، ولا يمكن الحديث عن ضمان تمتّع الجميع بأنماط عيش صحية وبالرفاهية في جميع الأعمار، والدول الغربية تفرض عقوبات على قطاعات حيوية مؤثرة في جميع نواحي الحياة اليومية للسوريين، ولا يمكن الحديث عن اتخاذ إجراءات عاجلة للتصدي لتغيّر المناخ وآثاره، وتركيا لا تزال تسرق حصص سوريا والعراق من مياه نهر الفرات، وتتسبب بتلوث ما تسمح بوصوله إلى الأراضي السورية والتركية من مياه. وما إلى ذلك من أوضاع ومتغيرات إقليمية ودولية لها الأثر الأكبر في فشل المبادرات الأممية المشار إليها سابقاً.
المشروع الوطني
في ضوء ذلك، فإن خيار سوريا، وغيرها من الدول النامية، لا يكمن في تجاهلها للمبادرات والمشروعات الأممية وعدم الاستفادة منها، بل على العكس من ذلك، فهذه يجب أن تبقى ضمن الأولويات واستثمارها بما يخدم ويدعم الخيار البديل المتمثل في العمل على وضع مشروع للتنمية الوطنية ينطلق من النقاط التالية:
-تحديد الاحتياجات والأولويات الوطنية بما يتناسب ونتائج الحرب ومتطلبات عملية إعادة الإعمار، وهذا لا يعني استبعاد أو إهمال أي من المؤشرات الواردة في المبادرات والبرامج الأممية، لكن النجاح في ترميم تلك المؤشرات وغيرها بات يتطلب تدرجاً متبايناً عما سبق في عملية التنفيذ وتهيئة بيئة اجتماعية واقتصادية مختلفة عن تلك التي حاولت الحرب ترسيخها. فمثلاً، ضمان التعليم لا يمكن قياسه حالياً في الحالة السورية من حيث عدد الملتحقين بالمدارس فقط، فهناك مثلاً مشكلة المناهج التعليمية المتعددة التي ينشأ ويتربى عليها جيل كامل من الأطفال واليافعين السوريين، وجودة التعليم، والمفاهيم والقيم والأفكار الاجتماعية التي انتشرت وتحولت إلى ثقافة حياة في فترة الحرب، وغير ذلك.
-التركيز على العوامل الداخلية لإنجاح المشروع والحد قدر الإمكان من تأثير العوامل الخارجية، وذلك من خلال تحويل المحنة والظروف الصعبة إلى فرصة وطنية، سواء من خلال إعادة النظر في عملية استثمار الموارد والثروات الوطنية المتاحة حالياً لتكون أكثر جدوى اقتصادية وتنموية، أو من خلال البحث عن القدرات والإمكانيات والفرص الضائعة وتوظيفها بما يحقق مشروع التنمية الوطنية. والتجربة السورية في الثمانينيات لا تزال حاضرة في الأذهان، فالحصار الغربي، وإن ترك تأثيراته لفترة زمنية معينة على الوضع المعيشي للسكان، إلا أنه سرعان ما تضاءل تأثيره مع النهضة الزراعية التي شهدتها البلاد، وأمنت من خلالها رغيف الخبز لمواطنيها لسنوات طويلة قبل أن تقع الحرب الحالية.
-اعتماد مؤشرات وطنية موضوعية وموثقة، تعكس حقيقة الواقع وما ينجز، وفي جميع المجالات والقطاعات، وهذه لا يمكن أن تتحقق ما دام توصيف الواقع متروكاً للمنظمات غير الوطنية والخارجية وللتقديرات البحثية غير العلمية وللاجتهادات الشخصية والحسابات المكتبية، فمثلاً الحديث عن الفقر في سوريا يجب أن يكون مرتبطاً حصرياً بخط الفقر الوطني لا بخط الفقر الأممي، إنما ذلك يتطلب من الحكومة إجراء مسح دوري للمجتمع السوري للوقوف على حقيقة دخل الأسرة فيه ونفقاتها، والحالة الصحية، والمتغيرات السكانية، والأمن الغذائي وغير ذلك.
-ملاحظة البعد المحلي والمناطقي للعملية التنموية، فالحرب كشفت عن أوجه قصور كثيرة في هذا الشأن، ففي حين كانت بعض المؤشرات في إطارها العام تتحدث عن تحقيق تقدم ملحوظ في العديد من المؤشرات التنموية، كانت هناك محافظات تسجل مؤشرات متواضعة وتثير تساؤلات عن أسباب هذا التفاوت التنموي، فمثلاً عندما كان المؤشر العام المتعلق بتلقي الأطفال للقاحات في العام 2010 يشير إلى تحقيق نسبة عالية على المستوى الوطني، كانت هناك محافظة مثل دير الزور لا تتجاوز فيها نسبة تلقي اللقاحات 56%، كذلك بالنسبة إلى تمدد معدل الفقر في بعض المناطق وتعمقه في مناطق أخرى.
-وضع أهداف المبادرات الأممية في خدمة المشروع الوطني وليس العكس، إذ طيلة السنوات السابقة تركز اهتمام المؤسسات الوطنية على تحقيق قفزات كمية في المؤشرات الأساسية المتعلقة بأهداف الألفية الثالثة من دون انعكاس ذلك على الوضعين الاقتصادي والاجتماعي في البلاد، ولذلك فإن المصلحة الوطنية تفرض أن يتم توظيف أهداف جميع المبادرات الأممية والدولية والإمكانيات المادية والفنية والبشرية في خدمة مشروع التنمية الوطنية، بحيث يصبح هناك توازن منطقي وواقعي بين ما تقوله المؤشرات وما يترجم على أرض الواقع.
-الاستفادة من تجارب وطنية لدول أخرى لم تدخل في لعبة سباق المؤشرات الكاذبة، وهناك أمثلة كثيرة يمكن أن تشكل مادة للدراسة والبحث واستخلاص بعض النتائج التي قد تفيد في الحالة السورية، فهذه الدول، سواء كانت في آسيا أو أفريقيا أو في أوروبا، لم تبن نهضتها التنموية اعتماداً على المبادرات والبرامج الأممية والخارجية، بالرغم من أهميتها من بعض الجوانب، وإنما اعتمدت على مشروع وطني وفرت له ما يحتاجه من دعائم النجاح والاستمرارية.
-الاستفادة من المشروعات التنموية الإقليمية المتشابهة في ظروفها وأوضاعها، كالمشروع الذي تعمل عليه جامعة الدول العربية بالتعاون مع الأسكوا لوضع رؤية تنموية للمنطقة العربية تمتد حتى العام 2045. وأهميته تكمن في الاستفادة من عامل التقارب الجغرافي للتعاون في مواجهة بعض التحديات الإقليمية كالتغيرات المناخية، وتعزيز النمو الاقتصادي من خلال تسهيل حركة التجارة البينية وما إلى ذلك.
سوريا ما بعد الحرب
قبل نحو أربع سنوات، خطت سوريا خطوة هامة على طريق اعتماد مشروع وطني للتنمية عبر إقرارها وثيقة برنامج “سوريا ما بعد الحرب”، وتضمن ثمانية محاور رئيسية تبدأ بملخص تحليل للحالة التنموية في البلاد خلال الفترة الممتدة من العام 2000 ولغاية العام 2018، ثم تنتقل إلى وضع رؤية مستقبلية لسوريا 2030، لكن البرنامج، الذي يأخذ عليه أنه غرق في التنظير وفي اعتماد مؤشرات غير دقيقة تماماً، لم يجد طريقه للتنفيذ لأسباب عديدة، ومع ذلك فهو يمكن أن يشكل أرضية يمكن البناء عليها بعد تصحيح ما يراد تصحيحه لوضع مشروع وطني غايته التنمية الوطنية، ولا سيما أن الظروف والأوضاع العالمية ذاهبة نحو مزيد من التدهور سياسياً، عسكرياً، اقتصادياً، وثقافياً.
Discussion about this post