عندما يؤكد الرئيس التركي رجب طيب اردوغان بأنه يجب عليه، وحكومته، اتخاذ خطوات “متقدمة” مع سورية من اجل إفساد “مخططات” تريد تدمير المنطقة والعالم الإسلامي، وعدم وجود أي أطماع لديه في أراضي سورية، والتزامه بوحدتها الترابية، فهذا التحول المفاجئ، الذي جاء على لسانه، وبالصوت والصورة، للصحافيين الذين كانوا على متن طائرته اثناء عودته من أوكرانيا، ربما جاء في إطار مراجعات سياسية جذرية وتقدير موقف لتطورات السنوات العشر الماضية، وانعكاسا للرغبة في فتح صفحة جديدة “جدية” و”مختلفة” مع القيادة السورية على الصعد كافة.
فهذه اللهجة التصالحية المفاجئة مع سورية قيادة وشعبا، لا يمكن ان تكون وليدة الساعة، وانما بعد دراسة متعمقة للأخطار التي تهدد تركيا والمنطقة بأسرها، والتوصل الى قرار بحتمية التراجع عن جميع السياسات السابقة التي لا تهدد بـ”تفكيك سورية” وانما الدولة التركية أيضا اذا ما استمرت.
***
كلمة السر السحرية جاءت بكل تأكيد اثناء لقاء القمة التي انعقدت قبل أسبوعين في منتجع سوتشي بينه وبين الرئيس الروسي الضيف فلاديمير بوتين، وجرى خلالها مناقشة بحث التطورات في سورية مثلما جاء على لسان الرئيس اردوغان، والتوصل الى تفاهمات استراتيجية لحل الازمة السورية على أرضية القبول بالمطالب السورية الرسمية، بضرورة انسحاب جميع القوات التركية، ومكافحة “مشتركة” للجماعات الإرهابية التي تهدد البلدين واحياء المعاهدات السابقة في هذا الصدد وأبرزها معاهدة اضنة عام 1998، وبطلب الرئيس بوتين وضمانته.
العبارة التي تحتل مكانة هامة في حديث الرئيس اردوغان في رأينا تلك التي تساءل فيها قائلا “لماذا نستضيف أربعة ملايين لاجئ سوري، ونتحمل عبأهم الأكبر؟ هل من اجل ان نستمر في حالة حرب مستمرة مع “النظام” السوري؟ وأجاب بالنفي، وقال “بل بسبب روابطنا مع الشعب السوري من حيث قيم العقيدة، والمرحلة المقبلة ستحمل الخير اكثر”.
التصريحات التي ادلى بها السيد جاويش مولود اوغلو حول حديثه عن ضرورة المصالحة بين تركيا وسورية اثناء لقائه العابر مع نظيره السوري فيصل المقداد في بلغراد، لم تكن بالونات اختبار وانما تمهيد متدرج للعودة الى الحوار مع القيادة السورية لتحقيق هذه المصالحة وبما يرضي الطرفين.
نحمد الله ان الرئيس اردوغان قد اعترف بعظمة لسانه ان الولايات المتحدة وقوات التحالف هم المغذون للإرهاب في سورية في المقام الأول، وهذا ينطبق ليس على الجماعات المسلحة المعادية لتركيا فقط وانما لسورية أيضا، وكم وجد الكثيرون الذين اكدوا على هذه الحقائق الدامغة آذانا صاغية من الرئيس التركي ومستشاريه، بل والأكثر من ذلك جرى تصنيفهم في خانة الأعداء.
الرئيس اردوغان بات يدرك جيدا ان الوقت ليس في صالحه مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية في شهر حزيران المقبل، وان قضية اللاجئين السوريين ستكون الورقة الأقوى فيها التي ستوظف ضده وحزبه الحاكم، في ظل تصاعد عداء قطاعات كبيرة من الشعب التركي لهم، خاصة ان المعارضة التركية المكونة من ستة أحزاب تملك برنامجا سياسيا واقتصاديا وانسانيا محكما لإعادتهم الى بلادهم بالتفاهم مع السلطات السورية.
السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو كيفية تعاطي القيادة السورية مع تصريحات الرئيس اردوغان هذه، وهي التي التزمت الصمت المطبق تجاه أخرى مماثلة، وردت على لسان وزير الخارجية اوغلو، والسيد دولت بهشتي زعيم الحزب القومي وحليف اردوغان الاوثق؟
***
ندرك جيدا ان الجرح السوري عميق، على الصعيدين الرسمي والشعبي، فالضرر الذي لحق بسورية على مدى السنوات العشر “السوداء” الماضية، سواء بسقوط مئات آلاف الشهداء، او دمار شامل للمدن، ونهب الثروات، من الصعب تقديره ماديا ونفسيا لضخامته، بسبب التدخل التركي عسكريا وسياسيا في شؤون دولة (سورية) لم تسيء مطلقا لتركيا وكانت تعتبرها حليفا، بل شقيقا، ولكن سورية المنتصرة الصامدة قد تسموا على الجرح، وتصافح اليد التي امتدت لها، فمصالح الدول والشعوب تتقدم دائما على الاعتبارات والآلام الشخصية.
تركيا اردوغان تتغير مضطرة، بل مكرهة، ولعل احراق العلم التركي في شمال سورية احتجاجا على هذه الرغبة بالمصالحة مع دمشق، وطي صفحة الخلاف بمثابة الصدمة التي كان الرئيس التركي بحاجة ماسة اليها لكي يصحوا من كابوسه السوري، ويتراجع عن “عناده” الذي بدأ يعطي نتائج عكسية.
الدهاء السوري، وسياسة الصبر والنفس الطويل، والايمان بحتمية النصر، والقتال حتى آخر نقطة دم حفاظا على الدولة السورية وارضيها الطاهرة، يبدو انها استراتيجية بدأت تعطي ثمارها، وسواء بدأ الحوار السوري التركي المتوقع او لم يبدأ، ونرجح بدايته قريبا جدا بسبب رعاية بوتين له، مع التأكيد مرة أخرى أننا مع المصالحة على أسس الندية والمساواة، واحترام مصالح الجميع، وقدوتنا الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي كان رمزا للتسامح والغفران.. والأيام بيننا.
Discussion about this post