إذا أردت أن تعرف ماذا قد يحدث في العديد من العواصم العربيّة في الأشهر القليلة المُقبلة فما عليك إلا أن تتعرّف على أسبابِ الاحتِجاجات الشعبيّة الهادرة التي اجتاحت العاصمة السريلانكيّة خلال الأيّام الثلاثة الأخيرة، وشارك فيها مِئات الآلاف من الشّباب الغاضب، اقتحموا القصر الجُمهوري وأشعلوا النّار فيه، وأجبروا الرئيس غوتابايا وشقيقه ماهيندا رئيس الوزراء على الفرار، وإعلان استِقالتهم، واستِعدادهم لتسليم السّلطة يوم الأربعاء المُقبل لمن يختارهم نوّاب الشّعب.
سريلانكا تعيش ظُروفًا معيشيّةً سيّئةً جدًّا تُشبه في بعض فُصولها ما يجري في لبنان حاليًّا، فخزينة البِلاد مُفلسة، والحُكومة باتت غير قادرة على تسديد أقساط دين خارجي قيمته 51 مِليار دولار، وعاجزة عن تأمين احتِياجات البلاد من الغذاء والدّواء والوقود.
الكهرباء مقطوعةٌ كُلِّيًّا لنقص المازوت، وأرفف الصّيدليّات فارغة من مُعظم الأدوية، وأكثر من 75 في المِئة من الشّعب (22 مِليون نسمة) باتو يعيشون على وجبةٍ واحدة في اليوم، والفساد باتَ العُنوان الأبرز في البِلاد، فساد الطّبقة الحاكمة على وجْه الخُصوص.
ومن المُفارقة أن فساد الرئيس السريلانكي المُنتخب وشقيقه رئيس الوزراء يُعتَبر “فراطة” بالنّسبة إلى فساد نُظرائهم العرب، فكُل ما تمّ العُثور عليه من قِبَل المُحتجّين عند اقتحامهم لمنزل رئيس الوزراء ماهيندا مبلغ من العُملات المحليّة لا تزيد قيمته عن 48 ألف دولار فقط، وقاموا بتسليم المبلغ إلى الشّرطة، رُغم أنّ هذا الرّجل، أيّ ماهيندا، يعود له الفضل بالقضاء على تمرّد ثوّار التاميل عندما كان وزيرًا للدّفاع وقائدًا للجيش عام 2009 ورئيسًا للبِلاد بعد ذلك (حتى عام 2015)، ويحظى بشَعبيّةٍ ساحقة، ولكنّ الجُوع كافر.
أنتوني بلينكن وزير الخارجيّة الأمريكي أرادَ أن يُوَظِّف هذه الاحتِجاجات ضدّ روسيا عندما قال إن للحُبوب عاملٌ حاسم في تفجير الاضطرابات في سريلانكا، وإنّ موسكو تفرض حِصارًا على تصدير القمح الأوكراني، وهذه كذبة كبيرة لأنّ اضطرابات الجُوع في سريلانكا بدأت قبل أشهر من الحرب الأوكرانيّة، ومُعظم واردات البِلاد من الحُبوب تأتي من الهند الجارة.
لم نُبالغ إذا قُلنا إنّ هذا السّيناريو السّريلانكي قد يتكرّر في بعض الدول العربيّة التي بدأت تُواجه أزمة غذاء، بسبب ارتفاع أسعار الحُبوب أكثر من 50 بالمئة في الأسواق العالميّة، علاوةً على انخِفاض حجم صادرات الحُبوب نظرًا للحرب الأوكرانيّة التي لعبت المُخطّطات الأمريكيّة الاستفزازيّة لروسيا دورًا كبيرًا في اندِلاعها، وتوريط أوكرانيا وشعبها المغلوب على أمْرِه فيها، وتحويلها إلى أداةٍ أو ضحيّةٍ لهذه المُخطّطات.
لا نستبعد أن يقتحم الجِياع العرب قُصور رؤسائهم ومُلوكهم، وبُيوت كِبار المسؤولين الفاسدين في بُلدانهم في الأشهر المُقبلة احتجاجًا على الجُوع والفساد، ولكنّهم سيجدون فيها مِئات الملايين من العُملات الأجنبيّة والمُجوهرات، وقوالب الذّهب، والتّحف الباهظة الثّمن، وليس مُجرّد 48 ألف دولار في بيت رئيس وزراء سريلانكا وبطلها الذي أنهى 37 عامًا من ثورة المُتمرّدين التاميل التي استنزفت ثروات البِلاد، ولم يَغفِر له الشّعب فساده النّسبي وسُوء إدارته.
مَرَّةً أُخرى نقول “الجُوع كافر” والفساد شِرك، وثورات الشّعوب هي النّتيجة الحتميّة في نِهاية المطاف، ولنا في سريلانكا وثورتها أحد أبرز الأمثلة.. واللُه أعلم.
“رأي اليوم”
Discussion about this post