لا جِدال في أنّ جميع الاتّهامات المُوجّهة إلى الرئيس قيس سعيّد من قِبَل خُصومه بالسّيطرة على مُعظم السّلطات التشريعيّة والتنفيذيّة في البِلاد، وإلغاء أو تجميد مُعظم بُنود الدّستور، واستِبدالها بمراسيم رئاسيّة صحيحة، ولكنّ مُعظم التونسيين يُؤيّدون هذه الإجراءات، لأنّهم يعتبرونها طارئةً ومُؤقّتة، والهدف منها إخراج البِلاد من حالة الفوضى والانهِيار الاقتِصادي والسّياسي التي عاشتها طِوال السّنوات العشر الماضية، مثلما كشفت استِطلاعات الرأي، والانشِقاقات في الأحزاب المُعارضة له.
صحيح أنّ الرئيس سعيّد يستمدّ قوّته، وهو الذي لا يملك حزبًا سياسيًّا، من دعم المُؤسّستين الأمنيّة والعسكريّة، وقِطاع عريض في الشّارع التونسي، وخاصَّةً من النساء، نِصف المُجتمع، وفئة الشباب، ولكن ما العيب في ذلك، فهذه مُؤسّسات وقِطاعات وطنيّة انبثقت من الشّعب التونسي، وتُشَكِّل ضمانة رئيسيّة لأمن البِلاد واستِقرارها، ولماذا التّشكيك في وطنيّتها؟
النّظام البرلماني التونسي فشَل، ليس بسبب تحوّل البرلمان إلى ساحة صِراع ومُناكفة وتبادُل الشّتائم، وعرقلة العمليّة السياسيّة، وإنّما أيضًا لدعمه، أو قِوى رئيسيّة منه، لحُكومات فاشلة ألحقت أضْرارًا كبيرةً بالدّولة التونسيّة على مدى العشر سنوات الماضية، باعتِرافِ أصواتٍ بارزةٍ فيها.
الرئيس سعيّد وجّه ضربةً “حضاريّة” قاصمة لخُصومه عندما فاجأهم بتعيين السيّدة نجلاء بودن رئيسة للوزراء، في خطوةٍ هي الأولى في تونس والعالم العربي، تَعكِس حِرصًا على تكريم المرأة، وتقدير دورها في المُجتمع، ووضع التنمية الاقتصاديّة ومُحاربة الفساد، وحل أزمة البِطالة (مِليون عاطِل في البِلاد) على قمّة أولويّاتها.
الغريب أنّ خُصوم الرئيس سعيّد الذين صدمهم هذا التّعيين المُفاجِئ، ولم يتوقّعوه مُطلقًا، خاصَّةً أنّهم شكّكوا في إقدامه على تشكيل حُكومة، ناهِيك عن وضع إمرأة على رأسها، اتّهموا الدكتورة نجلاء بودن بعدم الخبرة السياسيّة والإداريّة، وهي التي تحمل درجة الدكتوراه، وتولّت مناصب تعليميّة دوليّة، وينسى هؤلاء أنّ مُعظم، إن لم يكن جميع رؤساء الوزراء السّابقين لم يملكوا الخبرة السياسيّة والإداريّة، أو خرج بعضهم من السّجون (وهذا شَرَفٌ كبير) لتَولّي هذا المنصب، والشّيء نفسه يُقال عن مُعظم الوزراء أيضًا، ومُعظم الحكّام العرب، وأولياء عهدهم، وبعضهم من ساكِني قصر قرطاج سابقًا.
تونس تعيش مخاضًا عسيرًا، وانقِسامات سياسيّة حادّة، وهذا انقِسامٌ مشروعٌ وصحّي في أيّ بلد يُؤمِن بالحُريّات، ويعيش تجربة ديمقراطيّة طريّة العود بعد سنوات من الديكتاتوريّة المُطلَقة، والجميل أنّ هذه الانقِسامات ظلّت سلميّة حضاريّة بعيدًا عن كُلّ أشكال العُنف والصّدامات الدمويّة مثلما كان عليه الحال في العديد من الدّول الشّرق أوسطيّة، ولكنّ الأمر يتَطلّب الكثير من الوعي والمسؤوليّة، ووضع مصلحة البِلاد فوق كل المصالح الشخصيّة والحزبيّة.
أمس أعلن السيّد راشد الغنوشي، زعيم حزب “النهضة” أكبر الأحزاب التونسيّة عن دعوة البرلمان الذي يرأسه إلى انعِقادٍ دائمٍ ومفتوح، وأيّد هذه الدّعوة 80 نائبًا من حزبه (النهضة) وحليفه حزب قلب تونس من مجموع 217 نائبًا هُم مجموع أعضاء البرلمان، في تَحَدٍّ لرئيس الجُمهوريّة وقراراته ورئيسة الوزراء الجديدة التي عيّنها، الأمر الذي دفع أنصار الرئيس إلى اتّهام الشيخ الغنوشي بمُحاولة عرقلة عمل الحُكومة قبل أن يجري تشكيلها، وتوقّع الكثير من المُراقبين في تونس احتِمال أن تُؤدِّي هذه الخطوة إلى صِداماتٍ وأحداث عُنف.
الاختِبار الشّعبي الأكبر في تونس سيكون غدًا الأحد عندما تنطلق مُظاهَرتان، الأولى مُؤيّدة للرئيس في شارع الحبيب بورقيبة في قلب العاصمة، والثّانية أمام مقرّ البرلمان المُغلَق، ونأمَل أن تتحلّى المُظاهَرتان الشّرعيّتان والمُشاركون فيهما بالسلميّة، وأن يبتعدوا عن جميع أشكال العُنف.
الدّعم المعنوي الكبير الذي حصل عليه الرئيس قيس سعيّد وإجراءاته جاء من الاتّحاد التونسي للشّغل، العمود الفقري للحياة النقابيّة في البِلاد، والحارس الأمين على أمنِها واستِقرارها السّياسي، والحاصِل على جائزة نوبل في هذا المِضمار، فالسيّد نور الدين الطبوبي، الأمين العام للاتّحاد، وصف تعيين السيدة نجلاء بودن رئيسةً للحُكومة بأنّه وسام شرف لكُلّ التونسيّات والتونسيين في رسالةٍ مُهِمَّةً للخارج قبل الدّاخل، وعبّر عن تفاؤله بهذا الاختِيار، مُشيرًا إلى أنّه “لا يُمكِن انتِظار المُستحيل من رئيسة الحُكومة في ظَرفٍ دقيق، وفي ظلّ تعقيدات كثيرة، ولكن نُريدها أن تنجح، ونُريدها إمرأةً قويّة تُمارس قناعاتها، قادرة على حلّ الملفّات الشّائكة التي تنتظرها”، وهذا كلامٌ مَسؤولٌ يَعكِس براغماتيّةً وطنيّة.
السيُد الطبوبي، الذي يُوصَف بأنّه “حكيم تونس” من قِبَل الكثيرين، طرح أسئلةً مشروعةً عندما قال: “هل ستكون الدكتورة بودن رئيسة حُكومة أو وزيرة أولى، أم مُوظّفة سامية، أم إمرأة بشخصيّةٍ قويّةٍ تستطيع اتّخاذ القرارات بصفةٍ مُستقلّةٍ حتّى تُقَدِّم للعالم بأسْرِه الصّورة الحقيقيّة للمرأة التونسيّة؟”.
الأمر المُؤكّد أنّ الدكتورة بودن أوّل إمرأة تتولّى رئاسة الوزراء في بلدٍ عربيٍّ يعيش أزَمات وانقِسامات حادّة لن تكون أنجيلا ميركل مُستشارة ألمانيا، ولا مارغريت تاتشر المرأة الحديديّة البريطانيّة، ولا أنديرا غاندي الهنديّة، لأنّ الظّروف مُختلفة والمُقارنة ليست في محلّها، ويظَلّ اختِيارها لهذا المنصب خطوة شُجاعة وسابقة فريدة تستحقّ التّشجيع والمُساندة والدّعم، ووضع كُلّ الخِلافات السياسيّة جانبًا، ليس من أجلها، وإنّما من أجل تونس.
نُؤمِن في هذه الصّحيفة “رأي اليوم” أنّ الرئيس قيس سعيّد الذي فاز بأكثر من 75 بالمِئة من الأصوات في انتِخابات شفّافة أجمع العالم على نزاهتها، ودُون أن يملك حِزْبًا ومالًا، أو أن يكون معروفًا على نطاقٍ واسع في البِلاد، اجتهد وأقدم على خطواته “غير الدستوريّة” هذه، مثلما يتّهمه البعض، من أجل إنقاذ تونس، ومنع انهِيارها، بعد أن وصلت الأوضاع إلى انحِدارٍ بلا قاع، وأنّ مُفاجآته القادمة قد يكون حلّ البرلمان وإجراء انتِخابات تشريعيّة ورئاسيّة بعد أن حقّقت اجتِهاداته الحاليّة الحدّ الأدنى من الأمن والاستِقرار والنموّ الاقتصاديّ مثلما يقول بعض المُقرّبين منه.
استِبدال النّظام البرلماني بآخَر رئاسي الذي يتردّد أنّ الرئيس سعيّد يسعى إليه ليس خطيئة كُبرى إذا جاء عبر استِفتاءٍ شعبيّ على دُستورٍ جديد، ألم يفعل الرئيس رجب طيّب أردوغان الذي يُشيد البعض بإرثِه السّياسي الشّيء نفسه في تركيا؟ ولماذا حلالٌ على أردوغان وحرامٌ على قيس سعيّد؟
نتَمنّى للسيّدة نجلاء بودن كُلّ التّوفيق والنّجاح في مهمّتها الصّعبة الجديدة، ففي نجاحها وحُكومتها نجاح لتونس، وكُل المنطقة العربيّة، مثلما نتمنّى لتونس وشعبها الأمن والاستِقرار والوحدة الوطنيّة أبرز المُتَطلّبات للخُروج من الأزمة الحاليّة الطّاحنة، وعُنُق زُجاجتها إلى برّ الأمان.
“رأي اليوم”
Discussion about this post